مؤسس هذه الطائفة
اختلف العلماء في أول من أسس هذا المذهب -أي: أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه- وإلا فبذوره متقدمة -كما سبق- فقيل هو:
1- ذر بن عبد الله الهمداني:
وهو تابعي متعبد، توفي قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة.
قال إسحاق بن إبراهيم: '' قلت لـأبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر " وهكذا نقل الذهبي في الميزان عن الإمام.
ويبدو أن ذراً قد عرضت له الشبهة، وكان شاكاً فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجاً -وهكذا شأن أصحاب البدع-.
قال سلمة بن كهيل: ''وصف ذر الإرجاء، وهو أول من تكلم فيه، ثم قال: إني أخاف أن يتخذ هذا ديناً، فلما أتته الكتب في الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمرٌ غير هذا'' .
وعن الحسن بن عبيد الله قال: '' سمعت إبراهيم النخعي يقول لـذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذي جئت به؟
قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته!
قال: ثم سمعت ذراً يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح!! ''
وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعي بما سبق، وكان يعيبه، ولا يرد عليه إذا سلم.
'' وكان سعيد بن جبير شديداً عليه -حتى إن ذراً أتاه يوماً في حاجة فقال: لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم -أو رأي أنت اليوم- فإنك لا تزال تلتمس ديناً قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه؟ '' .
وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائي؛ أنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد: '' إن هذا يحدث -أو يجدد- كل يوم ديناً، والله لا كلمته أبداً '' .
وهذا وقد نقل الحافظ أن ذراً شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين .
2- وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر:
نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: ''أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر''.
ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضي صاحب كتاب الزينة السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: ''ومنهم الماضرية '' نسبوا إلى قيس بن عمرو الماضري، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه....
3- وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان:
المتوفى سنة 120هـ، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية.
ولا شك أن حماداً كان مرجئاً، وأنه كان معاصراً لـذر، فقد روى عبد الله بن أحمد أن إبراهيم النخعي -شيخ حماد- قال: '' لا تدعوا هذا الملعون يدخل عليّ، بعدما تكلم في الإرجاء -يعني حماداً '' .
ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال: إنه كان مستتراً خائفاً، ثم أظهر وأعلن.
قال أبو هاشم: '' أتيت حماد بن أبي سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذي أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حياً لتابعني عليه - يعني الإرجاء '' .
وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الآتي يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال: إنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: '' كنا نأتي أبا إسحاق -يعني السبيعي- فيقول: من أين جئتم؟
فنقول: من عند حماد، فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟
قال معمر: قلت لـحماد: كنت رأساً وكنت إماماً في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعاً؟
قال: إني أن أكون تابعاً في الحق خير من أكون رأساً في الباطل.
قال الذهبي: قلت: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئاً إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب.
والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية '' .
ويبدو أن الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم في بلد واحد، وقولهم في الإرجاء واحد.
ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجوداً غير خاف، فهذا سالم بن أبي الجعد التابعي المحدث المتوفى سنة 100هـ أو حولها - كان له ستة بنين؛ فاثنان شيعيان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم!!
وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لا سيما في الكوفة.
وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما: السنة لـعبد الله بن أحمد، وتهذيب الآثار للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيد الله الجزري العبسي قال: '' قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد.
قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا))[يوسف:110] مخففة.
قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أوليس يقول الله: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ))[البينة:5].
فالصلاة والزكاة من الدين.
قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة. قال: أوليس قد قال الله فيما أنزله: ((فَزَادَهُمْ إِيمَاناً))[آل عمران:173] فما هذا الإيمان الذي زادهم؟!
قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وبلغني أن ذراً دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما كان هذا مرتين أو ثلاثاً.
قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال: أسر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رُبّ سر لا خير فيه! فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله}، قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر.
قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم: فقال: سبحان الله!! أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميموناً وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قولهم.
قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلت: لا.
قال: دخل عليّ منهم اثنا عشر رجلاً، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله! إن عليّ رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت: نعم، قال: وتشهدين أني رسول الله، قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الجنة حق، وأن النار حق، قالت: نعم، قال: أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت قالت: نعم، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة} قال: فخرجوا وهم ينتحلوني.
قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأ لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))[التكوير:1] حتى إذا بلغ: ((مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:21] قال: ذاك جبريل، والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل '' .
ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك بن حسان قصة أخرى، قال: قلت لـسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟
قال: لا.
قال: فذكرت ذلك لـعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب ( أم ) خبيث؟ فإن الله تعالى قال:
((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ))[الأنفال:37] وجه الاستدلال: أنه إذا كان الإيمان واحداً لا يتفاضل فيلزم أنه خبيث لدخوله النار، والنار لا يدخلها طيب وإنما يدخلها الخبيث، وإن قال: إنه حين دخولها ليس معه الإيمان فقد كفره؛ لأن الإيمان عنده شيء واحد فزواله يكون بالكلية، وهذا عكس مذهبه .
فقال النحات : إنما الإيمان منطق ليس معه عمل! فذكرت ذلك لـعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرءون الآية التي في سورة البقرة: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ))[البقرة:177].
قال: ثم وصف الله هذا الاسم فألزمه العمل، فقال: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ))[البقرة:177]
إلى قوله: ((صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟
وقال: ((وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِن))[الإسراء:19].
فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم.
هذا الجدل المبكر -زمن التابعين- في موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما يبين لنا منهج السلف العلمي في مجادلتهم، وهو أن أهم جانب في القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أي: أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان.
- الجهم بن صفوان:
أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وأس البليات، جعله الله فتنة للناس، وسبباً للإضلال، كما جُعل السامري في بني إسرائيل.
حسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني، قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره.
هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!
وقد جمع المصنفون من السلف في سيرته الشيء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وسائر من ألف في الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كـالبيهقي، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم.
وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان.
والأصل الذي ينبغي معرفته في هذا، هو: أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتماداً على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلاً لَسِناً مجادلاً، مجبولاً على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية، حتى الجلي منها، وقالوا: '' إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط.
وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء
وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: السمنية، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجاً.
وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم، خلو من الحجة، فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيراً بالشر وشؤم العاقبة.
فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن -وهي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر- وكان فلسفتهم تقوم على: أن المصدر الوحيد للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلي -وهو الوحي- حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذي تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته، أم... إلخ؟!
وسُقط في يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه.
وقادته الحيرة إلى الشك في دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق في التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلاً: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو من شيء '' .
وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين.
وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي.
وكانت حياة جهم في آخر عصر بني أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض في قضية الإيمان، ويدلي بدلوه في هذه المسألة التي كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيراً، وكان طبيعياً أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دون ما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح.
والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركَّب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال في الإيمان.
والجديد في عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التي لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام، متذرعاً في ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذي لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية في حكم جملةٍ من علماء السلف ليست من فرق [ المسلمين ] أهل القبلة.
حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: ''نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم'' .
ومن هنا أَضرب أبو عبيد والطبري صفحاً عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين في النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام، ومنسلخ عن أقوال الملل الحنيفية جميعها.
ولكن أسباباً ومؤثرات -يأتي تفصيل الحديث عنها- أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب في الإيمان انتشاراً، مع ما لحقه من تعديل هو لفظي أكثر من كونه حقيقياً، ومن نفي لبعض لوزامه.
فالذي حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مَهدَّ لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كـالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل.
ولهذا قال وكيع بن الجراح -الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد-: '' أحدثوا هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة وهذا كفر والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة...'' .
وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به.
أما معرفته فلكي تعلم التطور التدريجي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كباراً، فيجب الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظاً فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط.
ولهذا عَدَّ بعض العلماء الخلاف كله لفظياً - وليس كذلك بإطلاق.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عنهم: ''وهذه الشبهة التي أوقعتهم -يعني شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان- مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء'' .
وقال أيضاً: ''والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم.
لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم'' .
وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.
هذا وبيان الفروق بين مذهب جهم، ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالي لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو:
إن مذهب جهم لم يكن له في حياة صاحبه، ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، وإنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسي، وقد عاش متهماً محارباً -لكن أقل من حال جهم في هذا- ثم ابن كلاب، وقد كان متهماً أيضاً -لكن أقل من حال بشر- ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة في فكر الأمة وحياتها.
وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين -وتبعهم من تبعهم- في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهماً قد ربَّى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم.
والواقع يكذب هذا، فإن جهماً كان كاتباً لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأياً خاصاً وفكرة شخصية، لأ أثر لها في توجيه الثورة التي لم تكن تمثل أية عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضَمت في صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليها جهم -على ما يظهر لي- لأنه هو أيضاً خارج عن الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التي أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله.
روى اللالكائي بسنده عن أحدهم: '' قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بـخراسان نصر بن سيار: أما بعد: فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة، يقال له: جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه '' .
ونقل الحافظ عن ابن أبي حاتم '' أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: يا جهم! إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهداً أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله '' .
وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبد الله القسري مع شيخه الجعد.
وأما ما ذكره الطبري من شعر لـنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتباً للحارث يعد سبباً كافياً لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، فإذا ضممنا إلى ذلك رقة دين الحارث، واستعانته بالمشركين على المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه.